فصل: تفسير الآية رقم (277):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (277):

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)}.
التفسير:
بعد أن توعد اللّه سبحانه وتعالى المرابين بمحق أموالهم، ووصمهم بالكفر الشديد لنعمه، بما ارتكبوا من هذا الإثم الغليظ الذي يعرضهم لسخط اللّه وعذابه- وعد سبحانه- الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة بالأجر العظيم، والرحمة والرضوان، والأمن يوم الفزع الأكبر.. ذلك لأنهم استقاموا على الصراط المستقيم، وجاءتهم الموعظة فاستمعوا إليها، وامتثلوا لها، وانتهوا عما نهوا عنه من منكرات كانوا يأتونها وهم جاهلون.
و{إيتاء الزكاة} هنا له آثاره في التحريض على البذل والإنفاق على ذوى الحاجات، حتى لا تضطرهم الحاجة إلى التعامل بالربا.

.تفسير الآية رقم (278):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)}.
التفسير:
هنا تعرض الآية الكريمة الطرف الثالث من أطراف العملية الربوية، وهم المقرضون بالرّبا، بعد أن عرضت الآيات السابقة الطرفين الآخرين وهما: المقترضون، والمال المقترض.
وإذ وعد اللّه سبحانه الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة والأجر العظيم، والجزاء الحسن في الآخرة، وإذ كان ذلك موقظا لأشواق النفس نحو هذا المقام الكريم، حافزا الهمم والعزائم إلى بلوغ هذه الغاية المسعدة- فقد جاءت دعوة الذين آمنوا إلى ترك هذا المنكر، في وقتها المناسب، لتتلقاها النفوس، وهى في نشوة أشواقها إلى رضوان اللّه، وإلى الطمع فيما أعدّ للمتقين من جنات فيها نعيم مقيم.
فمن واجب الذين آمنوا، وصافحت قلوبهم أضواء الهدى أن يتقوا اللّه، وأن يقدروه حق قدره، فلا ينتهكوا حرماته، ولا يحوموا حول حماه.. وقد حرّم اللّه الرّبا، ومن تقوى اللّه اجتناب هذا المحرم، إن أراد المؤمن أن يكون في المؤمنين حقا.. إذ لا يجتمع الإيمان باللّه، والمحادّة للّه، ومحاربته.
وقوله تعالى: {وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا} أي اتركوا ما تعاملتم به من ربا قبل أن يأتيكم اللّه حكم فيه بالتحريم، فليس لكم بعد هذا إلا رءوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون.

.تفسير الآية رقم (279):

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)}.
التفسير:
أي فإن أنتم أيها المقرضون بالرّبا لم تنتهوا عما نهيتم عنه من أخذ الربا، فأعدّوا أنفسكم لحرب معلنة عليكم من اللّه ورسوله.. فهل لكم على هذه الحرب صبر؟ وأين لكم القوة التي تقف لقوة اللّه، وتحول بينكم وبين ما يرسل عليكم من صواعق سخطه، ووابل عذابه؟
وفى قوله تعالى {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ما يسأل عنه، وهو: إذا كان لحرب اللّه للمصرّين على أخذ الربا.. مفهوم، وهو وقوعهم تحت سلطان سخطه ونقمته وعذابه.. فما مفهوم حرب رسول اللّه لهم؟
والجواب على هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن مخالفتهم لأمر اللّه وخروجهم عن طاعته هو مخالفة لأمر الرسول، وخروج طاعته، إذ كان الرسول- عليه السلام- هو حامل أمر اللّه ومبلغه. فعقاب اللّه الذي يأخذهم به هو عقاب من رسول اللّه أيضا، وحرب اللّه لهم، هي حرب لحساب رسول اللّه كذلك.. وذلك ما يدل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً} [23: سورة الجن] الوجه الثاني: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منفّذ أمر اللّه فيهم، بما مكّن اللّه من سلطان، يقيم به حدود اللّه على الخارجين عليها.. وإذ لم يكن للرّبا حدّ مفروض يعاقب به المرابون، كحدّ السرقة والزنا مثلا، وذلك لشناعة الربا، وغلظ جريمته التي لا حدّ لها إلا عذاب جهنم أو مغفرة اللّه- إذ كان ذلك كذلك، فإن لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- إذا عرض عليه نزاع في معاملة ربوية أن يسقط الربا، وأن يجعل للمرابى رأس ماله دون ما أربى به.. كما فعل صلوات اللّه وسلامه عليه. فوضع ربا الجاهلية كلّه، وذلك في قوله في خطبة الوداع: «كلّ ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب».
وهذا الذي لرسول اللّه من تسلط على الرّبا، هو حق من بعده لولىّ الأمر، إذا عرض له نزاع في معاملة ربوية، وضع الربا عن المقترض، وجعل للمقرض رأس ماله.

.تفسير الآية رقم (280):

{وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)}.
التفسير:
وحين يستجيب المؤمن لأمر اللّه بترك الرّبا، وأخذ ما أقرضه دون زيادة، فإن عليه أن ينظر في حال المدين، فإن كان معسرا- وهو ما يكون غالبا- ترفّق به، ومدّ له في الأجل إلى أن يتدبر أمره، ويتهيأ له الظرف المناسب لأداء ما عليه من دين.. فذلك ما تمليه عاطفة الرحمة والمودّة، وما تقتضيه المروءة في مثل هذه الحال.. ثم هو فوق ذلك عمل مبرور، له ثوابه وجزاؤه عند اللّه.. وخير من هذا وأعظم ثوابا وأحسن جزاء عند اللّه، هو أن يتصدق الدائن بدينه على المدين.. كله، أو بعضه، حسب ما يرى الدائن من حال المدين.
وفى الدعوة إلى التصدق بالدّين على المدين هنا ما يشير إلى أن هؤلاء الذين تضطرهم أحوالهم إلى الدين إنما هم- في الغالب الأعم- الفقراء، الذين لا يجدون من مالهم ما يستجيب لحاجتهم من ضرورات الحياة، فيمدّون أيديهم إلى ذوى اليسار ممن يتوسمون فيهم المروءة، ليعينوهم بشيء من مالهم، على أن يكون ذلك دينا يرد إليهم في أجل معلوم! فإذا سخت نفس الإنسان أن يقدم هذا العون للمحتاج في صورة دين، فإنه لأجمل وأكمل أن يحتسبه صدقة عند اللّه، على ألا يجرح بذلك مشاعر المدين، وألّا يمنّ عليه، ويفضحه، بأن يقول له على سبيل المباهاة، أو الإيذاء والانتقام: تصدقت عليك بما لى عليك من دين.. فذلك مما يذهب بصدقته ويمحقها، والطريق الأمثل في هذا- إن رأى أن يتصدق بدينه- أن يترك المدين، فلا يطالبه بالدين، تصريحا أو تلميحا.. فإن أيسر المدين أدى إليه دينه، وإن ظل على إعساره أمسك عنه، ولم يطالبه.
و{كان} في قوله تعالى: {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ} تامة، بمعنى وجد، أي وإن وجد في المدينين ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، إذ ليس كلّ المدينين على حال واحدة من الإعسار!

.تفسير الآية رقم (281):

{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)}.
التفسير:
الخطاب هنا للمقرضين بالرّبا خاصة وللمؤمنين عامة- وهو دعوة إلى تقوى اللّه، والإعداد ليوم يرجع فيه الناس إلى اللّه، فيوفيهم حسابهم حسب أعمالهم، وما كسبت أيديهم من خير أو شر، ولا يظلم ربك أحدا.
مبحث في الربا: أنواعه وأحكامه:
معناه في اللغة: النّماء والزيادة، يقال: ربا الشيء يربو رباوة وربا، إذا نما وزاد، ومنه الرّبوة، وهى الأرض المرتفعة على ما حولها.
وفى لسان الشريعة، وفى لغة المعاملات: هو عملية دين، يؤدّى عنه مال زيادة على أصل الدين، في المدة التي يظل فيها الدين في ذمة المدين.
ذلك هو أصل الرّبا الذي أدركه الإسلام عند عرب الجاهلية وشهد آثاره السيئة في المجتمع العربي.
الإسلام والربا:
وكان طبيعيا أن يتدخل الإسلام في هذا الضرب من المعاملات الجائرة، التي تغتال الضعفاء، وتمتص عصارة الحياة فيهم، وتقطع أواصر الرحمة والأخوّة بين الناس والناس.
وقد جاء الإسلام بالحكم القاطع في تحريم الربا في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}.
والربا.. الذي جاء القرآن بتحريمه هو ربا النّسيئة، وهو الذي أشرنا إليه من قبل، والذي يقع بين الدائن والمدين بفرض زيادة على أصل الدين، في مقابل تأجيل دفع الدّين مدة معينة.. إذ النسيئة هي التأخير، يقال نسأ اللّه في أجل فلان: أي مدّه وأطاله.
ولا شك أن في هذه العملية ظلما محققا وقع على المدين من الدائن.. وذلك أن الدائن- وهو صاحب المال الذي هو نعمة من نعم اللّه في يده، وفضل من أفضاله عليه، لم يرع فيه حق اللّه، وحق الفقراء فيه، بالصدقة والإحسان.
وهو إذ لم يفعل هذا، كان من الواجب عليه- ديانة ومروءة- أن يمسكه في يده، ولا يجعل منه أداة يمتص بها البقية الباقية من حياة الفقراء! يقول ابن قيّم الجوزية: إن اللّه لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء، فإذا أربى الغنىّ مع الفقير فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه دينه وظلمه زيادة أخرى- أي زيادة على أصل الدين بالربا- والغريم- أي الفقير- محتاج إلى دينه، الذي أوجبه اللّه له في مال الغنى- وهذا من أشد أنواع الظلم.
فهذا هو أصل الرّبا المستكمل لجميع سيئاته.. ولهذا روى عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «إنما الرّبا في النسيئة» أي في تأخير دفع الدّين نظير الزيادة عليه.
مداخل إلى الربا:
ومن تمام الحكمة في الشريعة الإسلامية، أنها لا تحفل كثيرا بالصور والأشكال، وإنما تلتفت دائما إلى ماوراء الصور والأشكال من آثار.. وعلى هذه الآثار يكون حكمها على الشيء.. من الحظر، أو الإباحة، أو الوجوب.
وغير هذا من الأحكام.
فالخمر- مثلا- مسكر.. فهو حرام لهذه العلة، وهى الإسكار.. وقليل الخمر لا يسكر، ومع هذا فقد تساوى القليل من الخمر مع الكثير، في التحريم.
ونطق لسان الشرع الحكيم فيه: «ما أسكر كثيره فقليله حرام».
ولو أخذنا بمنطق الصورة والشكل، لكان قليل الخمر غير حرام، مادام لم يبلغ بالإنسان مبلغ السكر.
وربما يكون هذا مقبولا في عمليات المنطق، ولكن هل يقبل الواقع هذا؟
وهل تصدقه التجربة؟
التجربة والواقع ينكران أن يقوم حجاز يفصل بين قليل الخمر وكثيره، لتقع جريمة السكر أو لا تقع.. فقد يسكر بعض الناس بهذا القليل، ولا يسكر آخرون بأضعافه.. ثم من ذا الذي يضمن نفسه إذا ألقى في جوفه بقليل الخمر، الذي لا يسكر به، ألّا تمتد يده إلى غير هذا القليل حتى يسكر؟ وإذا استطاع هذا الإنسان أن يردّ نفسه مرة ومئة مرة عن أن يتجاوز حد الإسكار، فهل من الممكن أن يطول به الوقوف عند هذا الحدّ إلى غير حدّ؟ وإذا استطاع إنسان أن يمر بهذه التجربة سالما، فهل ذلك في مقدور الناس جميعا؟
الواقع والتجربة ينقضان هذا، ويؤكدان أن كثيرا من الناس شربوا قليل الخمر مداواة، أو لعبا، فتجاوزوا المداواة واللعب إلى الإدمان، ثم الإغراق في الإدمان! هذا صنيع الإسلام في كل محرم.. إنه يحرّمه ويحرّم الذرائع المؤدية إليه.
وفى الربا.. حرم القرآن الكريم الرّبا، على الصورة التي كانت معروفة له في الجاهلية، وهو ربا النسيئة، ثم جاءت السنّة المطهرة، فحرمت الذرائع المفضية إليه، حتى لا يتخذ الناس من تلك الذرائع مطايا- تنقلهم بقصد أو غير قصد- إلى الربا الصريح!.
ومن الذرائع التي حرّمها الإسلام، وعدّها من الرّبا، إذ كانت بابا يؤدى إليه- هذه الصور من المعاملات:
1- ربا الفضل:
وهو بيع المتماثلين.. من ذهب أو فضة أو برّ أو تمر أو غير هذا.. بزيادة أحد المثلين على الآخر.. كمن يبيع درهما من الذهب بدرهم وبضعة قراريط من الذهب، وكمن يبيع قدحا من التمر، بقدح ونصف منه.. فهذا بيع متلبّس بالحرمة والإثم.
يقول ابن قيّم الجوزية: ثم إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حرّم أشياء، مما يخفى فيها الفساد، لإفضائها إلى الفساد، كما حرم قليل الخمر، لأنه يدعو إلى كثيرها، ومثل ربا الفضل، فإن الحكمة فيه- أي في تحريمه- قد تخفى.
إذ العاقل لا يبيع درهما بدرهمين إلا لاختلاف الصفات، مثل كون الدرهم صحيحا والدرهمين مكسورين، أو الدرهم مصوغا، أو من نقد نافق أي رائج، ونحو ذلك.. ولهذا خفيت حكمته على ابن عباس ومعاوية، حتى أخبرهما الصحابة الأكابر، كعبادة بن الصامت وأبى سعيد الخدرىّ وغيرهما- بتحريم النبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- لربا الفضل.
وقد ألحق الرسول الكريم هذا الضرب من المعاملات بالربا.. إلّا أن يكون مثلا بمثل، ويدا بيد.. يقول الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلّا مثلا بمثل ولا تشفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» وفى لفظ: «إلّا وزنا بوزن، مثلا بمثل، سواء بسواء».
وعن أبى سعيد الخدري، رضى اللّه عنه قال: جاء بلال إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بتمر برنىّ.
فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «من أين هذا؟» قال بلال: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي، فقال النبي عند ذلك: «أوه!! عين الرّبا.. لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشترى فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به».
ولا شك أن مثل هذه المعاملات لا يقصد منها الربا على الوجه المعروف، المراد منه استغلال الفقير المحتاج، وفرض إرادة صاحب المال- الدائن- عليه.. ولكن يمكن أن تجرّ هذه المعاملات إلى ما يجرّ إليه الربا من ضغينة وعداوة.
أما الضغينة والعداوة فتنشآن مما يتكشف عنه الحال بعد عملية بيع المتماثلين مع تفضيل أحدهما عن الآخر، حين يرى أحد المتبايعين- بعد الرجوع إلى ذوى الخبرة- أنه غبن، ولا سبيل إلى الرجوع في عملية البيع. فالمتماثلان، لا يفضل أحدهما الآخر إلا في أمور لا يتعرف عليها إلا أهل النظر والخبرة في هذا الشأن، ومن هنا يقع الغبن، الذي تنتج عنه العداوة والبغضاء، كما ينتج الظلم يأكل أموال الناس بالباطل، عن طريق الربا المعروف، وهو ربا النسيئة.
وقد يقال: إن هذا الذي يقع في بيع المتماثلين مع زيادة أحدهما عن الآخر- يقع أيضا في بيع المتماثلين مثلا بمثل.. إذ لا شك أن المتماثلين لا يتماثلان في جميع الوجوه، وإلا لما كان هناك داع يدعو إلى استبدال هذا بذاك.
ونعم. إنه لابد من فروق بين المتماثلين، حيث يرى كل من صاحبيهما الرغبة فيما في يد الآخر.. ولكن الغالب في المماثلة أن تكون الفروق طفيفة، يمكن أن يحتملها الطرفان بالزيادة أو النقص، ولكن لو فتح باب المفاضلة بين المتماثلين لا تسع مجال الغبن، وتضاعفت مقاديره.. فكان في إباحة بيع المتماثلين مثلا بمثل رفع للحرج على الناس في تبادل المنافع، التي لا غنى لهم عنها، كما كان في تقييد هذه الإباحة بألّا يفضل أحد المثلين الآخر، وزنا أو كيلا- كان في هذا ما يحرس هذه العملية من الغبن الفاحش، لو فتح فيها باب التفاضل!.
2- بيوع الغرر:
ومن الأمور المفضية إلى الربا، بيع الغرر، والغرر في اللغة، معناه التغرير والخداع.. يقال. غرّر فلان بفلان أي ساقه إلى سوء، أو أوقعه في مكروه عن طريق الحيلة والخديعة والغش.
ويقع الغرر أو التغرير في بعض صور هذا البيع.. وذلك كبيع المعدوم.
مثل حبل الحبلى، وبيع السمك في الماء، وبيع المعجوز عن تسليمه، كالحيوان الشارد عن صاحبه، أو بيع المجهول المطلق.. مثل قولك: بعتك منزلا، أو المجهول العين، مثل قولك: بعتك ما في جيبى.
ولا شك أن مثل هذه المبايعات لا تنتهى- غالبا- إلا بخلاف بين المتابعين إن لم يكن متخذا صورة مادية ظاهرة، اتخذ مشاعر محملة بالبغضة والعداوة، لأن البيع الذي حدث على تلك الصورة هو في الواقع ضرب من المقامرة والمخاطرة.. إذ لا يدرى أحد متى تحمل هذه الناقة أو النعجة، التي وقع البيع على ما قد تحمل في المستقبل، ولا أحد يدرى ما سيكون عليه نتاجها.. أهو سليم أو معطوب، أو هو واحد أو اثنين أو ثلاثة.. ويقال مثل هذا في بيع الحيوان الشارد، أو المجهول جهالة مطلقة، كالبيع الواقع على كلمة منزل أو ما في الجيب.
روى عن أنس بن مالك رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، نهى عن بيع الثمار حتى تزهى، قبل: وما نزهى؟ قال: تحمرّ أو تصفر.. قال:
أرأيت إذا منع اللّه الثمرة، بم يستحلّ أحدكم مال أخيك؟.
وروى أحمد في مسنده، قال: قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة، ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خصومة، فقال: ما هذا؟ فقيل: إن هؤلاء ابتاعوا الثمار.. يقولون: أصابها الدّمّان والقشام، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «فلا تبايعوها حتى يبدو صلاحها».
فالرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- لم ينه عن هذا البيع إلا بعد أن تكشفت آثاره السيئة، وتكشفت عن مشاحنة وبغضاء.. ولو جرى هذا البيع دون أن يثير مثل هذه المشاحنات أو لو كان بين أيدى الناس من وسائل العلم ما يضبط الحال التي سيكون عليها الثمر وقت نضجه، لما وقع حظر على هذا البيع، وما ماثله.
حكم الربا: هل الربا كبيرة من الكبائر؟.
هذا سؤال يبدو غريبا، بعد أن قالت الشريعة قولها فيه، في الكتاب الكريم، وفى السّنّة المطهرة.
فالقرآن الكريم يصور.. آكل الربا في صورة من أصابه مسّ من الشيطان، فاختبل عقله، واضطرب كيانه، وبدا للناس في أسوأ حال يبدو فيه إنسان {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ}.
والقرآن الكريم يعلن الحرب من اللّه ورسول اللّه على مؤكّلى الرّبا إن لم يتوبوا، ويرجعوا إلى اللّه.. {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
والرسول الكريم يلعن جميع الأطراف المشتركة في عملية الربا: آكله، ومؤكلّه، وشاهديه، وكاتبه.
ثم أفلا يكون الرّبا بعد هذا كبيرة؟.
وبلى، إنه لكبيرة الكبائر عند اللّه!.
يقول الرسول الكريم: «الرّبا ثلاثة وسبعون بابا.. أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمّه، وإنّ أربى الرّبا عرض الرجل المسلم».
وفى هذا ما فيه من تغليظ لجريمة الرّبا، وتشنيع عليها، وأنه لو صوّر الرّبا درجات بعضها فوق بعض، لكان أهون درجاته، وأقلها إثما، مماثلا للإثم الواقع من نكاح الرجل أمّه!!.
فكيف الحال بما فوق ذلك من درجات في الكيان الربوىّ؟.. لقد وضع الرسول الكريم على قمة الرّبا.. إباحة عرض المسلم.. وهو الزنا!!.
وكل درجات الرّبا الثلاث والسبعين- من أدناها إلى أعلاها- سلسلة متشابكة الحلقات من الظلم والعدوان.. ظلم النفس، وظلم الغير، وعدوان على حرمة النفس، وحرمة الغير.
والسؤال هنا هو: إذا كان هذا هو شأن الرّبا، وتلك هي جنايته، وآثاره السيئة في الحياة، فلما ذا لم يضع الإسلام عقوبة مادية له، كما وضع للجرائم الأخرى، كالقتل والسرقة، والزنا، وشرب الخمر، والقذف؟ فلكل جريمة من هذه الجرائم حدّ مقرر، وعقوبة راصدة، فرضها الإسلام، وأوجب على المجتمع الإسلامى إقامتها على من وجبت عليه؟.
هذا سؤال، لم أجد في كتب الفقه التي وقعت ليدى من سأله من الفقهاء.
وإذن فلا سبيل إلى جواب على هذا السؤال من كتب الفقه.
ومع هذا، فقد وقع في نفسى أن أسأل هذا السؤال، وأن أتولّى الإجابة عليه!!.
ولكن.
لما ذا لم يسأل الفقهاء هذا السؤال؟ ولما ذا لم يكشفوا عن السبب في عزل هذا المنكر عن الكبائر الأخرى، فلم تفرض له عقوبة؟ ولقد سأل الفقهاء عن أمور فرضية أو وهمية، قد لا تقع في الحياة أصلا، ووضعوا أجوبة لها.
فكيف بهذا الأمر الواقع في الحياة؟
وأكبر الظن عندى، أنه ربما كان ذلك، لأنهم عدّوا مسألة الرّبا من المسائل التعبديّة التي تخفى حكمتها، ولا يسأل عنها، كما خفيت حكمة ربا الفضل على ابن عباس ومعاوية، وكما خفيت الحكمة في ألوان أخرى من المعاملات.
التي دخلت مدخل الرّبا! ولهذا روى عن عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه- أنه كان يقول: ثلاث وددت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عهد إلينا فيهن عهد، ننتهى إليه: الجدّ، والكلالة، وأبواب من الرّبا.
وقول عمر: وأبواب من الرّبا أي صور منه، وهى كما قال الرسول الكريم: «الربا ثلاثة وسبعون بابا».
أما الرّبا الذي قطع الإسلام بحرمته- وهو ربا النسيئة- فقد جاء البيان فيه واضحا قاطعا.. وبقيت الصور الأخرى، وهي التي ليست في حقيقتها ربا، ولكنها مداخل إلى الربا، فقد تركها الإسلام خاضعة للنظر والتقدير، حسب الظروف والأحوال. فما قد يكون مدخلا منها إلى الربا اليوم، لوقوعه تحت احتمالات شتى- قد يوجد في المستقبل من العلم ما يرفع هذه الاحتمالات كلها، ويقيمه على أمر واحد محقق، فيصبح- والأمر كذلك- على حقيقة واحدة، لا مجال فيها لمفاجأت الاحتمالات، وتوقعاتها! وأما الحكمة في تحريم الرّبا- بمعناه المعروف- فهى ظاهرة لمن طلبها.
يقول النبيّ الكريم: «الربا ثلاثة وسبعون بابا، أيسرها أن ينكح الرجل أمّه، وإن أربى الرّبا عرض الرجل المسلم».
وواضح أن الاعتداء على عرض الرجل المسلم، ليس من الربا المعروف، بل المراد بالربا هنا هو المعنى الملازم له، وهو الظلم.
وإذن فنستطيع أن نفهم الحديث الشريف، على هذا الوجه، وهو أن المراد بالربا، وأنه ثلاثة وسبعون بابا- أنه الظلم، وأن أبواب الظلم ودرجاته هي هذه الثلاثة والسبعون بابا.
ولما كان الرّبا- بمعناه المعروف- على رأس أبواب الظلم جميعها، فقد جعله الرسول الكريم، العنوان لجميع أنواع الظلم.. تشنيعا عليه، وتنبيها إلى مكانه المشئوم بين الكبائر.
ويقول النبي الكريم: «من شفع لأخيه شفاعة، فأهدى له عليها هدية فقبلها، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا».
وهذا بيان صريح في أن الرّبا يقابل الظلم مقابلة واضحة صريحة.
وعلى هذا، فإنه مهما تعددت أنواع الرّبا واختلفت صوره، فإن الأصل الذي تفرع عنه الربا واضح معروف، والحكمة في تحريه واضحة لا تخفى.
وأن أكل أموال الناس بالباطل وظلمهم، هو العلة في تحريم الرّبا.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}.
وليس بعد هذا بيان في النصّ على تحريم الرّبا، وفى الكشف عن الحكمة في تحريمه، والنهى عن التعامل به.
ونعود إلى سؤالنا:
لما ذا لم يضع الإسلام عقوبة مادية للربا، مثل الجرائم التي فرض عليها عقوبة؟
والجواب الذي يمكن أن نستلهمه من روح الشريعة.. هو:
أولا: أن الحدود التي فرضها الإسلام عقوبة للقتل والسرقة والزنا.
وغيرها.. هي تطهير لمرتكبيها من آثار ما ارتكبوا.. فإذا أقيم الحد على مرتكب جريمة من هذه الجرائم طهر.. كما ورد في الحديث عن عبادة بن الصامت، قال: أخذ علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أي العهد كما أحد على النساء: «ألا نشرك باللّه شيئا، ولا نسرق، ولا نزنى، ولا نقتل أولادنا، ولا يعضه بعضنا بعضا، فمن وفى منكم فأجره على اللّه، ومن أتى منكم حدّا فأقيم عليه، فهو كفّارته.. الحديث».
ذلك شأن الذنوب التي يقام فيها الحدّ.. يتطهر منها مرتكبوها بإقامة حدود اللّه عليهم.
أما الربا فهو باب وحده من أبواب الشر والفساد، وخطيئته تحيط بصاحبه، وتخالط كيانه الروحي والجسدى، فلا ينجو منه إلا بالتوبة الخالصة ونقض يديه من هذا الوزر.. إلى غير رجعة.. وإلا فهو حصب جهنم {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}.
ثانيا: الربا محاربة سافرة للّه ولرسوله، إذ كان بغيا على عباد اللّه الفقراء، وتحكّما في أرزاقهم، وإفسادا لحياتهم، وتضييعا لهم.. إنه قتل خفىّ جماعىّ للفقراء المستضعفين في المجتمع، ولهذا تولّى اللّه- سبحانه وتعالى- الدفاع عنهم، والانتقام لهم، ممن ظلموهم، وأوردوهم هذا المورد المهلك.. {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
فاللّه سبحانه هو الذي أعلن هذه الحرب على المرابين، وكفى بحرب يعلنها اللّه، وكفى بجرم يعلن اللّه الحرب على مرتكبيه!! إن اللّه- سبحانه- لم يعلن الحرب على غير هذا الصنف من المفسدين.
وهم المتعاملون بالرّبا! حتى أولئك الذين أعلنوا الحرب على اللّه وعلى رسوله، لم يؤذنهم اللّه بحرب، كما يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ} [33: المائدة] فلم يعلن سبحانه وتعالى الحرب على هؤلاء العصاة المتمردين، الذين سعوا في الأرض فسادا، وأعلنوا الحرب على اللّه وعلى رسوله.. ولكنه أعلنها سافرة صريحة على المرابين: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وليس وراء هذه الحرب إلا خراب شامل، وضياع وفساد لما جمعوا، وعذاب شديد في نار جهنم، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
هذا هو الحدّ الذي وضعه اللّه سبحانه- عقوبة للربا، وتولّى- سبحانه- تنفيذه، دون أن يعهد بذلك إلى أحد.
ثالثا: تتم عملية الربا بين آكل الربا- المقترض، وبين صاحب المال- المقرض- والشاهدين، والكاتب.
إنها عملية واحدة، ولكل من هؤلاء دوره فيها.
فهل يكون الحد واحدا لجميع أطرافها، إن وضع لهذه الجريمة حد؟
أم أن يكون لكل طرف من الأطراف الأربعة الحدّ الذي يناسب دوره فيها؟
إن قيل بأن تكون العقوبة واحدة لهؤلاء جميعا، تكون قد سوّت بين الظالم والمظلوم، وبين من أغواه الجشع وحب المال، ومن دفعه الفقر وألجأته الحاجة، حتى صار كالمضطر! ثم إن الشاهدين والكاتب لم يأكلوا الرّبا ولم يؤكّلوا، فهل يسوّون يمن أكل أو أكّل؟ لا محل للمساواة إذن في العقوبة هنا.
وإن قيل: تقع العقوبة على قدر الجرم الذي تلبس به كل من المشتركين فيه.. قيل إن في هذا تهوينا من شناعة الجريمة، لأنها جريمة أعلن اللّه فيها الحرب، على أطرافها جميعا وإن أدنى عقوبة لمن اشتبك في حرب مع اللّه ينبغى أن يكون أقصى عقوبة عرفت في الحدود، وهى القتل، أو الرجم.. فبم يعاقب من هم أكثر التصاقا بهذه الجريمة، وأشد وزرا فيها؟ وهل بعد القتل أو الرجم عقوبة؟ إذن فلا سبيل إلى المساواة! وإذن فلا مكان لوضع عقوبة عادلة تأخذ هذه الأطراف.. كلّا بحسب ذنبه! رابعا: إذا قيل إن هذه الجريمة، وقد بلغت ما بلغت من الشناعة والظلم.
لم لا يكون القتل حدّا من حدودها.. ينال على الأقل صاحب المال، وهو المرابى؟ ثم يكون التعزير لآكل الربا المدين ثم للشاهدين والكاتب.
إذا قيل هذا.. قيل: إن الجريمة أكبر من القتل، وأكبر من أن ينال مقترفها شرف التطهير بإقامة حدّ من حدود اللّه عليه.. وليكن عذاب السعير هو العقاب الذي ينزل كل واحد من هؤلاء المشتركين في هذه الجريمة- منزله من النار، وفى النار منازل، ودركات! خامسا: إن معركة المال بين الأغنياء والفقراء، هي معركة الحياة الدائمة المتصلة.. وهذه المعركة لا ينفع فيها عقاب مادى، ولا يخفف من طغيانها.
لأن المال شهوة قائمة في النفس لا ينطفئ سعارها إلا إذا بللتها قطرات من ينابيع العطف والرحمة والمحبة، ينضح بها ضمير حىّ، ووجدان سليم.
إن الضمير وحده هو الذي يمكن أن يفاء إليه في تسكين هذه الشهوة الصارخة لحب المال.. ومن هذه الجهة يجيء الأمل في القضاء على جريمة الرّبا، أو الحد من نشاطها.
ولهذا ترك الإسلام العقاب المادي لهذه الجريمة الغليظة، واتجه إلى الضمير الإنسانى، يخاطبه، ويبعث فيه مشاعر الخير والرحمة والمودة.. فإذا لم يكن ثمة ضمير يندى به قلب الغنىّ عطفا ورحمة على الفقير، فيقرضه قرضا حسنا، أو ثمة ضمير يعفّ به الفقير عن هذا المورد الوبيل- إن لم يكن ثمة هذا الضمير أو ذاك، فلا قيمة لوازع السلطان أمام سلطان المال وطغيانه، وإزاء ضراوة الحاجة وقسوتها.
ولهذا ختم اللّه سبحانه وتعالى آية الربا، بالحثّ على مراجعة النفس فيما هي مقدمة عليه بارتكاب هذا المنكر، وما ينتظرها من حساب يوم القيامة.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
فهذه المراجعة إن صادفت قلبا سليما، ونفسا مهيأة للخير، عدلت بها عن هذا المورد الوبيل، وساقتها إلى موارد البر والخير، والتعفف والصبر وإلّا فلا دواء لهذا الداء إلّا ما أعد اللّه لأهله من عذاب السعير.
مبحث في الدّين توثيقه والإشهاد عليه.